منهج القرآن في بناء المجتمع

د. محمد كنون الحسني

د. محمد كنون الحسني : رئيس المجلس العلمي المحلي بطنجة

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ . وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، ﴾ . وقال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ . وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ .

هذا هو القرآن الكريم، دستور المسلمين الذي نـزل به الروح الأمين، على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ ليرشد الناس إلى ما يجب أن يأخذوا به أنفسهم، وينظموا به حياتهم، ويكوّنوا به مجتمعهم على الوجه الذي يسعدهم في الدنيا والآخرة.

فقد نزل القرآن الكريم؛ وفي العالم مجتمعات مختلفة الأسس والغايات؛ استمدت حياتها من أوضاع بشرية، وأفكار إنسانية بحتة؛ فاتخذ بعضها العصبية الجنسية أساسًا للحياة، واتخذ البعض الآخر العصبية الإقليمية منهجا وسلوكا.

فكان من رحمته سبحانه وتعالى أن أنـزل الكتاب؛ إرشادًا وهداية لما يجب أن يسلكه الإنسان في تنظيم حياته، ويتخذه أساسًا لمجتمعه فنحى الجنسية العصبية، والإقليمية، ونحوهما، وسما بالإنسانية عن أن يكون اجتماعها وترابطها راجعين إلى اعتبارات كثيرًا ما تدفع بأصحابها إلى التفرق والخصام، وتخلق بينهم العداوة والبغضاء, وجعل الناس مهما اختلفت جنسياتهم، وتباعدت أقاليمهم، وتعددت مذاهبهم وآراؤهم، يجتمعون حول مبدأ ثابت لا يتغير، ولايعتريه نقص ولا أُفول؛ فتشعر بالوحدة، وتنشط في رفعة شأنها والقيام بواجبها: يأخذ قويها بيد ضعيفها، ويواسي غنيها فقيرها، وبذلك تنمو الحياة ويسعد الناس ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ .

فقد بنى القرآن تنظيمه للمجتمع الإنساني على هذا الأساس، وجاءت كل شرائعه وأحكامه تعمل عملها في تقويته وتشييد صرحه بناء على أسس ومبادئ منها:

1. الإيمان الصحيح:

يعتبر الإيمان بالله تعالى، وبنبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، والشعور بقدسية الدين، والإقرار بتشريع القرآن، جوهرَ التشريع وأساس المجتمع القرآني، فالمؤمن بشريعة القرآن يؤمن بوجود الله تعالى القادر المسيطر على هذا الكون، ويؤمن بيوم الحساب والجزاء، ويؤمن بأن الدنيا مزرعة الآخرة، فهو يرهب الله ويخشاه ويراقبه في السر والعلانية، ليل نهار، صباح مساء، فلا يعمل إلا بما يرضي الله سبحانه، لا يخون العهد والأمانة، ولا ينحرف عن جادة الاستقامة.

وشعلة الإيمان بالله رباً وبالقرآن دستوراً ومنهجاً تملأ النفس بالراحة والطمأنينة، وتنير الطريق أمام المؤمن، وتعصمه من الانحراف والضياع، إن تكلم فبالله، وإن أراد فلله، وإن عمل فبقوة الله، يؤدي واجبه خير الأداء، ولا يتعدى على حقوق الآخرين.

والإيمان بشريعة القرآن يحقق الخير للجميع، دون بغي أو عدوان، ويكفل حرمة الحقوق، ويسعد الفرد والجماعة، ويؤدي إلى الرخاء والاطمئنان.
ولو قلبنا صفحات التاريخ لوجدنا أن أسلافنا ما سعدوا في حياتهم الدنيا إلا لَمَّا اصطبغت أرواحهم بجوهر الإيمان الحقيقي، وأجسادهم بجوهر السلوك الإنساني الرفيع، فسعدوا وأسعدوا، وتعلَّموا وعلَّموا، فكانوا للناس خيراً وبِشْراً وحبورا.

وإذا وجدنا في مجتمعنا نوعاً من التخلف، أو فساداً في الأخلاق، فما ذاك إلا لضعف الإيمان فينا، واختلال العقيدة عند الكثيرين منا، وضعف أثر الدين على النفوس.

2. . الإنسان أخو الإنسان يرقى بالهدف المشترك إلى مرتبة الجماعة:

فالناس جميعا إخوة، ويدلنا على ذلك أن كثيراً من الأنبياء الذين قصّ الله سبحانه وتعالى علينا قصصهم، وعملهم من أجل نشر هدى الله وبيانه، سمى الله قومهم بإخوانهم بالرغم من تكذيبهم وعنادهم، فقال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) وقال جل وعلا: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)

وقال عز من قائل (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) . وقال أيضاً عن قوم لوط: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) .وعندما خاطب القرآن مشركي مكة خاطبهم بقوله: (يا أيها الناس) ولم يصفهم بالشرك أو الكفر، ولم يناديهم بـ (يا أيها المشركون)، وما ذلك إلا لوجود تلك النزعة الإنسانية العظيمة فيه.

وقد وردت كلمة أخ في القرآن قريباً من مئة مرة، ووردت كلمة إنسان أقل من هذا العدد بقليل، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على مدى تقدير هذه الأخوة، ومدى الدعوة للمحافظة عليها ودعم روابطها.

وهنا يكون القرآن قد رسم للإنسان ووضح له خطته الصحيحة المضمونة من أجل بناء مجتمع سليم الأسس، والغاية الكريمة التي يسعى لها ويعمل من أجلها، بحيث لايمتاز فيها إنسان عن آخر إلا بالإنتاج والالتزام والانتماء، فيتحرك كل إنسان بحركة غيره، وهو يعمل لنفسه في تأمين مستقبله، وعائله في كل ذلك على الإنسانية، فهو يحيا بحياتها، ويطمئن بقدر ما يوفر لها من الأمان والرخاء ، قال تعالى: ” وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )
وهنا يكون القرآن قد حقق داخل الفرد والجماعة أهم مقوم لتجميع الأفراد وربط ما بينهم، وهو الهدف الذي لا يرتقي الفرد لمرتبة الجماعة بدونه.

ويدرك علماء الاجتماع أن الأفراد إذا لم يجمعهم هدف واحد وخطة وحقل عمل موحدان، لا يمكن أن يتعايشوا داخل جماعة متماسكة وإن كانوا يعيشون في مكان واحد.
وما المجتمع في واقع الأمر إلا الأفراد التي هي لبناته، ومنها يتكون، وما الأفراد في واقعها إلا المجتمع الذي منها تكون؛ فسعادته من سعادتها، وصلاحه من صلاحها،. وإذن فالبحث عن الأساس الذي عليه يبنى المجتمع، هو بحث عن اللبنات التي منها يتكون.

فإذا ما صيغت اللبنات على الوجه الذي به تقوى وتتماسك في خاصة نفسها، والذي به تتبوأ مكانها في بناء المجتمع، وجد المجتمع المثالي الفاضل، فيما بينه وبين نفسه، بالتراحم والتعاون وتبادل الخير والمنفعة؛ فلا نرى مريضًا وبجانبه طبيب لا ينظر إليه، ولا فقيرًا، وبجانبه غني يتمتع بفضل الله عليه، ولا يمد يده إليه، ولا مكروبًا، وبجانبه قادر على تفريج كربته ثم لا يفرج عنه كربته.

غير أن هذا الترابط بين الأفراد داخل المجتمع لابد لكي يثمر ثمرته، ويحقق غايته، ويستمر ناميًا لا يتناقص، بعيدًا عن الأهواء والشهوات سليمًا من اختلاف الآراء والنـزعات، متمكنًا من قلوب الأفراد والمجتمعات؛ لابد أن تهيمن عليه في قلب الإنسان وروحه، قوة ينبع احترامها من قلبه، فيكون للتعاليم التي يتلقاها عن تلك القوة، ويسوس بها نفسه في فرده ومجتمعه، نفس الاحترام الذي ينبع من قلبه لتلك القوة وليس ذلك إلا التعاليم الإلهية، الواصلة إليه من الله رب العالمين، والتي تضمنها وأرشد إليها كتابه الكريم ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ .

فالروابط بين أفراد المجتمع كالدوائر تتسع وتضيق، والعلم بها كصعود جبل، كلما تابعت المسير اتسعت أمامك دائرة الرؤية الصحيحة، وفي النهاية لن يجد الإنسان أوسع من إطار المجتمع القرآني وأشمل.

3. تطبيق شرع الله وحماية حرماته:

لا يقتصر المنهج القرآني على تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، منعزلة عن الرقابة الإلهية في السر والعلن، وإنما ينظم هذه المعاملات على أساس من مراعاة علاقة الإنسان بخالقه على أكمل وجه، وتقدير الجانب الخلقي في التعامل على حب الخير، ومنع الأذى وطهارة النفس، وصفاء القلب، وعلو النفس، والترفع عن الدناءات، وهذه الخصائص جعلت التشريع القرآني خالداً إلى يوم القيامة لايُنقَضُ ولا ينسخ، ويجمع بين المثالية والواقعية، قال تعالى: ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ويبدو التكامل في التشريع القرآني من خلال صلته المتلازمة بين العقيدة والعبادة والشورى كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )

بهذا يكون القرآن الكريم قد تحول بالفرد من حياة السلب والعدوان إلى كيان آخر هو المسلم الجندي الذي يعثر على تاج كسرى عقب هزيمة الفرس، فيحضر به إلى صاحب الغنائم دون طمع فيه، ودون أن تغريه جوهرة واحدة ليبتزها وهي تكفل له الثراء الذي هو في أمس الحاجة إليه، يقول الطبري: ” لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الغنائم ، أقبل رجل ومعه حق من الجوهر الفريد ودفعه إلى صاحب الغنائم فعجب صاحب الغنائم ومن معه من ذلك الحق وقالوا: ما يعدله كلما جمعنا اليوم، وسألوا الرجل هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فقالوا من أنت؟ فأجاب: والله لاأخبركم فتحمدوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه” .

ومن هذا المنطلق وجدنا الخليفة الأول للمسلمين، يفتتح خلافته بقوله: ” أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخير منكم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدفت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله،… أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم” .

4 , المساواة بين البشر واعتبار التضامن والتكافل والتراحم من أوجب الواجبات على المسلم تجاه أخيه:

وقد كرس الإسلام هذا التساوي والأخوة والوحدة في العبادات والمعاملات، فالإله واحد، والرسول واحد، والدين واحد، والكتاب واحد وهو القرآن الكريم، والالتزام بالجماعة واجب في الصلاة على شكل صفوف متساوية يقف فيها الغني والفقير،والقوي والضعيف، ويوم الجمعة وفي كل عيد يدعو الإسلام إلى اجتماع يؤمه إمام واحد ويتجه فيه المسلمون إلى قبلة واحدة ويصلون ويشكرون ربا واحدا، والزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء لكي يشعروا جميعا أنهم جسد واحد، ” إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” وهي ليست منة أو فضلا من الغني بل واجبا وحقا للفقراء في مال الأغنياء قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، والصيام يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعا صفة الإنابة والرجوع إلى الله، والحج يضم أشتات المسلمين في المشرق والمغرب في مكان معلوم (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) .

5. المساوة بين الرجل والمرأة :

إذا عدنا إلى كتاب الله العزيز دستور الأمة وسراجها فسنقف على آيات كثيرة توحي بحقوق المرأة وتفصح عن المبادئ والأسس التي تسوي بين الرجل والمرأة، وتدرأ عن النساء كل أشكال الاضطهاد والإهانات التي كن يرزحن تحتها في العهود الخالية ، فمنذ البدء أعلن القرآن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الإنسانية والأصل والمآل : ( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ، وقال: ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) . فالرب واحد والأصل واحد والفرع واحد، لا فضل لذكر على أنثى ولا لأنثى على ذكر إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالمرأة كاملة الإنسانية كالرجل لها حق التعليم والمعرفة ولها مكان اجتماعي كريم في مختلف مراحل حياتها منذ طفولتها إلى نهاية عمرها، بل إن هذه الكرامة تنمو كلما تقدمت في العمر من طفلة إلى زوجة إلى أم، حيث تكون في سن الشيخوخة التي تحتاج معها إلى مزيد من الحب والحنو والإكرام، قال تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) وقال أيضا: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ، وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهـن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتاخذونه بهتانا وإثما مبينا ، وكيف تاخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) ،وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) .

فقد خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال، وجعل لهن عليهم مثل ما جعل لهم عليهن، وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايعه المؤمنون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

6, الموازنة بين الحق والواجب:

الحق والواجب متلازمين في الشريعة الإسلامية، فإذا كان الحق هو كل ما هو ثابت للفرد أو المجتمع أو لهما معا، يقرره المشرع لتحقيق مصلحة أو دفع ضرر، والواجب هو كل ما يلزم الإنسان مراعاته وحفظه ،وعدم انتهاكه من حقوق الآخرين ،وما يلزمه تجاه مصلحته وسيادة مقدساته وثوابته، فالواجبات تقابلها الحقوق، والحقوق تقابلها الواجبات، والإنسان لا يطالب بحق من حقوقه إلا إذا أدى ما عليه من واجبات، ومن ثمَّ نجد أن الشريعة الإسلامية حين قررت حقوقاً ورخصا فرضت مقابلها واجبات من أجل الوفاء بهذه الحقوق والرخص، لآنها تهدف إلى أن تجعل قاعدتها الأولى فكرة الوجوبية والالتزام أكثر من أن تقرر فكرة الأحقية والاستحواذ . فالإنسان في عرف الشرع ينظر إليه على أنه متحمل مسئولية أو ملزم بأداء واجب ولذا فالكلمة التي تطلق عليه باعتباره عضوا في مجتمع هي كلمة ” مكلف ” ، فكل فرد في الإسلام هو مكلف ، أي مسئول . وعلى الإنسان أن يستشعر أنه مؤتمن أو وكيل على الحقوق فيتصرف فيها تصرف الوكيل في الحدود التي عينت لوكالته

وفي القرآن الكريم لم يُذكر لفظ واجب إلا مرة واحدة في صيغة فعلية للحيوان ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) في حين ذكر لفظ الحق 287 مرة، منها وصف الله بأنه هو الحق 227 مرة. ويعني الحق الوجوب والضرورة. إذ يحق التدمير والعقاب على من تخلى عن واجباته. وكلمة الله حق بمعنى أنها واجبة (كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فإذا كان الحق قانون طبيعي للكون، فالواجبات في الاسلام مستنبطة من الحقوق. والحقوق هي أساس الواجبات.

7. الدعوة إلى التقدم والحضارة

وضع القرآن الكريم الأساس القويم لبناء وتقدم الحياة بقوله تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) , كما قامت دعوة القرآن إلى الحياة الصحيحة الواقعية المتفوقة، على أساس النظرة الشاملة للإنسان والحياة والكون، وذلك بالربط الوثيق بين الأرض والسماء وبين الجسد والروح، بين مطالب الدنيا والآخرة، فعمدت إلى الجمع والتوازن بين المادية والروحية الإنسانية، منطلقة من قوله جل وعلا: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) .

فإذا كان تقدم أي مجتمع مرهون باستقرار أوضاعه الداخلية ( السياسية والاقتصادية والاجتماعية ) فإن القرآن دعا إلى تحقيق هذا الاستقرار في جوانبُه الثلاث::
فلتحقيق الاستقرار السياسي أمر القرآن بطاعة أولي الأمر، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) كما أمر بالوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف، فقال عز من قائل: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ، وقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) كما جعل التشاور والحوار من أسس بناء الدولة فقال: (وأمرهم شورى بينهم( /.

ولتحقيق التقدم الاقتصادي دعا سبحانه إلى إعمار الكون فقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وعلمنا القرآن الاهتمام بالزراعة والسدود من خلال قصة سد سبأ، والاهتمام بالصناعة من خلال قصة داود ( صاحب الصناعة الحربية ) بقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) وقصة سليمان (صاحب الصناعة المدنية) بقوله: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وسَمَّى سورة كاملة في القرآن باسم سورة الحديد بياناً لفضل هذا المعدن وأهميته في الصناعتين الحربية والمدنيّة على حد سواء، حيث قال سبحانه عن الحديد: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) .

وفي دعوته إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي ركز القرآن على الأخلاق الحميدة والأُخُوّةِ والتآلف بين الناس، وأمر بالإحسان للآخرين، ووصف البر الحقيقي بأنه من جمع خصال الإيمان والإحسان إلى الخلق، فقال سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .

وأخيراً فمن ميزات المجتمع القرآني أنه لايعرف الانزواء والانغلاق و العصبية والعرقية والإقليمية، وإنما هيو مجتمع منفتح يدعو لخير الإنسان والإنسانية جمعاء، مصداقا لقوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .