في الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد كنون الحسني

في الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد كنون الحسني

في الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم

إن النفوس مجبولة على الاعتراف بالجميل لذوي الجميل، وإن الأمم في قديم التاريخ وحديثه تعتني بذكرى عظمائها لإشاذة بأقدارهم وتقدير أعمالهم، وفاء لحقهم عليها وتذكيرا للحاضرين باعمال الماضي، ليصرفوا همهم إلى الاقتداء بهم والسعي لبلوغ درجات المجد التي استحقوا عليها التبجيل والتكريم، وتختلف هذه الذكريات في أشكالها  تبعا لاختلاف الأمم في أمزجتها وميولها وعاداتها .

وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلى تكريم الناس له بعد أن أكرمه الله، فرفع ذكره وشرح صدره وأعلى قدره، وخلد اسمه في كتابه الكريم وفي أنواع من العبادات مفروضة وغير مفروضة، قال تعالى:”ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك” وقال: “ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا”، أخرج البزار بسند جيد مرفوعا:” فضلت على الانبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأحلت لي الغنائم وجعلت أمتي خير الأمم، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه”، وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم وأبو يعلة وابن حبان وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك قال: “قال لي جبريل قال الله تعالى:إذا  ذكرت ذكرت معي”، وعن قتادة في الآية قال: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي: أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

فمهما قلنا ومهما أشدنا ومهما مدحنا فإن الرسول الاعظم أكبر من قولنا وأسمى من إشادتنا وأنبل من مدحنا، ففي كل يوم وفي كل لحظة له عند المسلمين تعظيم وإجلال يفوقان كل إكبار وتقدير، ومقام النبي الكريم ليس بالمقام الذي ينال بالكسب ولا بالمقام الذي تمتد اليه الأعناق، فهو فضل الله يختص به من يشاء من عباده الذين أعدهم لهاتك الدرجات وهيأهم لمثل هذه النفحات، فذكرى شهر مولده يجب ان تكون باحياء سنته واحياء المبادئ السامية والاخلاق الكريمة التي اتصف بها ودعى الناس ّإليها وأن نقيم الوحدة مكان التفرقة والعزة مكان الذلة والمكارم الاخلاق مكان انحلال الخلقي، فلا يكفي أن تتلى قصة المولد و ترتل، وأن تضاء المصابيح وتنظم، وأن تتلى العظات والسير ثم تنسى، فلم يكن صاحب الدكرى قوالا بل كان فعالا وكان فعله أكثر من قوله، والكلام إذا لم يتبعه العمل ولم يحدث في النفس آثاره بحيث يحملها على المصابرة و المثابرة ، كان الايمان به ضعيفا أو كان كما يقول أهل النظر تصورات لا تصريفات، ولا يكفي المحبوب أن تقول له إني أحبك، بل هو يقاضيك تبعات الحب ومايلزمه من المتابعة واحتمال المصاعب وتجشم المشاق في سبيل رضى المحبوب، “قل ان كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم”، فهل سيكتفي منا الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحلوق بالتغني بمدائحه ولوك ألفاظها من غير فهم معانيها؟ هل سيكتفي منا بالتجمع والتناشد والتمايل وإطعام الطعام وسقي الشاي؟ هل سيكتفي منا بإلقاء الخطب وقراءة قصة المولد والقيام والجلوس وما إلى ذلك مما يفعل عادة في هدا الشهر المبارك؟ هل سيكتفي منا بذلك وبغير ذلك وقلوبنا متناثرة وعيوننا ملوثة بالنظر الى ما حرم الله؟ وألسنتنا لا تنفك عن قول الزور واللهو والحديث واليمين الغموس؟ وآذاننا لا تتورع عن سماع الغيبة والنميمة والكذب والبهتان؟ وأجسامنا لا تتجافى عن مضاجعها لتقوم لله ربي العالمين والناس نيام؟ وأرجلنا لا تسعى في سبيل مصلحة من مصالح المسلمين العامة؟ وجلنا لا يهتم بأمر المسلمين قدر اهتمامه بنفسه وأهله ومصالحه الشخصية؟

 كلا ، إن الرسول صلى الله عليه وسلم لايرضيه منا إلا تحكيم القران العظيم في الشادة والفادة من شؤوننا وفهم الدعوة الاسلامية حق الفهم وتنفيذ تعالمها، لايرضيه صلى الله عليه وسلم منا إلا أن نتصافى فنغسل قلوبنا من كل غل وحقد وحسد وأن نكون إخوانا متحبين، فننشر السلام والوئام بيننا، وأن نتعاون على محاربة الجهل والمرض والفقر في مجتمعنا، وأن نتناصر ضد البغي والظلم والتمييز النازل علينا، لا يرضيه صلى الله عليه وسلم منا إلا أن نراجع تعاليم ديننا وأن نحاسب أنفسنا على القيام بها، وأن نعمل على إحياء ما اندثر منها وصقل ماعلا الموجود منها صدا البدع الموروثة والبدع التي أحدثها الاستعمار وتولدت من مخالطتنا للأجانب وتقليدنا لأساليبهم تقليدا مشوها في شتى النواحي، ففسدت أخلاقنا وأصبحنا كالمنافقين والعياذ بالله لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا يرضيه صلى الله عليه وسلم في ذكرى شهر مولده إلا أن تكون وافية بالغرض من الذكرى المحققة لمبدإ الوحدة المحققة لمبدإ التعاون والتناصر وللغرض الأسمى الذي نزل به الوحي وجاهد صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم في سبيله طول حياته، فتؤلف الجماعات من المفكرين والقادة في الأقطار الإسلامية للبحث عن أدواء الأمم الإسلامية وأمراضها في الدين والاجتماع والأخلاق، وتفنى هذه الجماعات أنانية الأفراد بل أنانية الجماعات والأجناس، وينظر إلى الأمة باعتبارها طائفة واحدة يحدها الاتجاه إلى القبلة والصلاة إليها، فلا ينظر إلى جنس ولا إلى مذهب بل إلى وحدة  خلع الاسلام عليها توبه وجمعها تحت رايته فاصطبغت بصبغته ودانت لكتابه، فلو أن أممنا كانت أمما حية راقية تعرف كيف تستقبل الأوقات والظروف كانت انكبت في هذه الايام بمناسبة المولد النبوي على تجديد دراسة مبادئ الإسلام الصحيحة وفضائله العلمية، وأثره في الانقلاب العالمي دراسة حية ترجع إلى الصورة الحقة  التي وضعها السلف الصالح  في آثارهم ومؤلفاتهم حينما كان الإسلام غضا طريا قريب العهد بربه، حينما كان الاسلام دولة وأمما حينما كان الإسلام عملا وخلقا، حينما كان الإسلام علما وحضارة، حينما كان الإسلام مظاهر صحيحة في كل مظاهر الدولة أفرادا وجماعات، لاكما نرى الاسلام علما يتخد جدلا وعملا تغمره الأوضاع والبدع، وعقيدة تتنازعها الأهواء والآراء.

روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسند صحيح  عن ابن مسعود مرفوعا:” حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، أما حياتي فابين لكم السنة وأشرع لكم الشرائع، وأما موتي فإن أعمالكم تعرض علي فما رأيت منها حسنا حمدت الله وما رأيت منها سيئا استغفرت لكم”، لاشك أن اليوم الذي تعرض عليه فيه أعمالنا ونحن في الصف الأول للتناصح والاتحاد والاعتزاز بالاسلام  والذب عن حياضه ليوم سيكون فيه صلى الله عليه وسلم قرير العين بنا وهو في الرفيق الأعلى يباهي الأمم بمجهودنا ويستغفر لنا فيشفعه الله فينا ثم يغفر لنا وذلك هو الفوز العظيم، وعندئذ تكون ذكرانا للحبيب ذكرى أعمال كبير لا مجرد أقوال، وذكرى بناء على تقوى من الله ورضوان، وإن اليوم الذي نجتمع فيه للتغني بأمداحه صلى الله عليه وسلم وقلوبنا طافحة بالإيمان والإخلاص والحب والرحمة، وأحوالنا مستقيمة وألوية العزة والسيادة الإسلامية تخفق فوق رؤسنا، وعدالة الإسلام تشمل مجتمعنا، وملبسنا حلال ومأكلنا حلال ومشربنا حلال، وتوبتنا صحيحة نصوح، لهو اليوم الذي فيه يفرح المؤمنون بنصر الله، ولهو اليوم الذي فيه ترفع ملائكة الرحمة أعمالنا إلى عليين وهم ستغفرون لنا قائلين: ” ربنا وسعت كل شيئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من ابائهم وأزواجهم وذرياتهم، إنك أنت العزيز الحكيم، وقهم السيآت، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم”، إنه لليوم الذي يصح أن نقول بحق وصدق إننا أحيينا فيه ذكرى رسول الله عليه الصلاة والسلام إحياءا يتناسب في الجملة مع عظمة المذكور.